رؤيا شخصية

هذه هي محاور رؤيتي الشخصيّة التي حاولْتُ، على مدى الثلاثة عقود الماضية، أن أُحوِّلَها الى حقائقَ حسّيَّة ملموسة:

 

  أوّلها وأهمّها: مفهوم "العقيدة الإنسانيّة" (Humanitarianism)، حسبما جرى بحثه بالتفصيل في تقرير اللَّجنة المستقلّة الخاصة بالقضايا الإنسانيّة الدوليّة (Independent Commission on International Humanitarian Issues) التي كان لي شرف المشاركة في رئاستها مع الأمير صدر الدين آغا خان

إنّ "العقيدة الإنسانيّة" توجّهٌ أساسيّ نحو مصالح البشر ورفاهيّتِهم، يشمل كُلاًّ من الإنسانيّة (Humanism) وحقوق الإنسان؛ لكنه، في الوقت نفسه، يتعدّى حدود القانون الإنسانيّ القائم، ويتمحور حول أخلاقيّة التّضامُن (أو التكافُلِ) الإنسانيّ. وإنّ حجر الزاوية للإطار المفهوميّ المتعلّق به هو القيم التي شكّلت منذ زمن سحيق جُزْءاً من الوعي الجمعيّ للجنس البشريّ، والتي استطاعت أنْ تُحافظَ على بقاء البشر وسلامتهم، في وجه الزّمان:

-     احترام الحياة؛

-     المسؤوليّة تجاه الأجيال القادمة؛

-     حماية البيئة البشريّة؛


      -     محبّة الآخرين التي يُغذّيها شعورٌ بالمصلحة المتبادَلة والإقرار بالكرامة الإنسانيّة وقيمتها.


إنّ التّحدّياتِ التي تطرحُها الأسئلةُ الإنسانيّةُ تُشغل العقل والقلب سواء بسواء؛ إلا أنّ الأفكارَ والمشاعرَ ليست، بحَدّ ذاتِها، بديلاً للعملِ الحاسم. وقد شهدت السّنواتُ الأخيرةُ تدنّياً مضّطرداً في المنافعِ القصيرةِ الأمد المتأتّية عن التوجُّه الأحادي والثّنائيّ. وربّما تكون اللّحظة قد حانت لتكريس طاقة إضافيّة لتعزيز التوجّه المتعدّد (Multilateralism)، وهو المبدأ الذي يشكّل الأساس الذي تقوم عليه الأمم المتّحدة ومؤسّسات دوليّة أخرى. وفي هذا السياق، كان لـي شرفُ إدخال قرار "النّظام الإنسانيّ الدّوليّ الجديد" (New International Humanitarian Order)، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتّحدة في 9 كانون الأول/ديسمبر دون تصويت.


•  ثانيها: الحاجة الماسّة الى ثقافة سلام؛ إذ انبلج فجْرُ الألفيّة الجديدة على عالَمٍ تتفشّى فيه النزاعات المتأجّجة والصّراعات المدمّرة. وقد طال انتظارنا لقيام ثقافة للسلام تستعمل طرائقَ براغماتيّةً فاعلةً لإزالة التّناحُر والصراع وإعطاء الناس أدلّةً ملموسةً على إمكانيّةِ تحقّق السلام. ومع أنّ الاتفاقات والمعاهدات جرى الاعترافُ بها منذ زمن طويل كوسائلَ أساسيّةٍ لتنظيم سلوك الدول، إلا أنّ اهتماما أقلّ بكثير أُعطي إلى صوغ نهجٍ اكثرَ شموليّة، ينضوي تحته الأفراد؛ أي مواطنو تلك الدول. وثمة عنصر حيويّ في هذا النهج يلزم عنه بالضرورة إعادة النظر في المدلول الذي يُعْطَى عادة لمصطلح "الأمن". فالأمن يجب ألاّ ينحصرَ في مجال التعريف العسكريّ؛ ذلك أنّ الأمنَ الاجتماعي والاقتصادي هما أيضاً من مستلزَماتِ الاستقرار.

 

       فجميع الناس لهم الحقّ في حياة كريمة، خالية من الرعب واليأس. لذلك، لا بُدّ من تشجيع الدول على احترام حقوق الإنسان الأساسيّة وتعزيزها لتجنيب مواطنيها مختلِفَ أشكال الاستغلال: السياسي أو الأيديولوجي أو غيره. وبالقَدْر نفسه من الأهّمّية، لا بُدّ من قيام مبادرة عالميّة تعتمد جميعَ الموارد السياسيّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة والثقافيّة الممكن تصوّرها لتحسين الظروف المحلّيّة وتقديم سيناريوهات للمصالَحة. والخطر يهدّد بشكل خاص الشباب الذين يكوّنون غالبية سكّان العالم النامي في الوقت الحاضر. والإقرار بهذه الحقيقة يمنحنا نقطةَ بداية ممكنة: ألا وهي تعزيز ثقافة عالميّة للسّلام بين الشباب. وإذا أمكن لثقافة السّلام أنْ تُصبحَ طريقةً للحياة تتخلّل نواحي حياتهم كافّةً، فسيكون ذلك استثماراً في مستقبلِنا المشترَك سنجني منه عائداً كبيراً. فالعنف والرعب كثيراً ما ينشآن نتيجة اليأس السياسيّ والاقتصاديّ، لأنّ التطّرف يظهر حينما يعتقد الناس أنّ لا مستقبلَ أمامهم؛ في حين أنّ السلام ينبثقُ من الأمل. من المؤكّد أنّنا نستطيع أنْ نمنح أولادَنا ذلك الشيء بالذات الذي يُرْمَزون إليه في نظرِنا: الإيمان بالمستقبل.


• ثالثها: تأكيد كبير على الحوار. فالحوار أداة فاعلة لبناء جسور التعاون بين مَنْ يمثّلون ثقافاتٍ وأدياناً مختلِفة، عن طريق الكشف عن النظرة النمطيّة للآخرين وتصحيح التصوّرات الخاطئة. كذلك، يُسهمُ التعرّضُ أحياناً الى وجهات نظر مختلِفة في توسيع مجالات الاتفاق. لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه أنّ الحوار يشجّعُ أولئك الذين يعتنقون مبادىء أو آراء متضاربة على الإقرار بأنّ الحقيقة ليست حكْراً على طرفٍ دون آخر؛ بل إنّ الطَّرفيْن كليْهما يتقاسمان الحقيقة فيما بينهما، ولكلّ منهما رؤيا لا تكتمل دون الآخر. وفي هذا الخصوص، فإنّ "برلمان الثقافات" الذي دعا اليه "يهُودي مِنيُوين" (Yehudi Menuhin)، يمكن أنْ يُعَدَّ مثالا لنا جميعاً ويستحقّ، في رأيي، المزيد من التشجيع. وفي الأردنّ، كان لي شرفُ تأسيس المعهد الملكيّ للدراسات الدينيّة عام 1994. وفي الأصل، تأسّس كمركز لدراسة التقاليد المسيحيّة واليهوديّة في العاَلمِ العربيّ؛ ثمّ توسّع نطاقه ليشمل التفاعل الثّقافيّ أو الحضاريّ في العالم بأسره، إدراكاً منّا أنّ الإقليمية لا يسعُها أنْ تتقوقعَ في العالَمِ المعاصر.


 • رابعها: إدراك أهمّيّة المعرفة والإبداع. فالعَوْلمة لم تعد مجرّدَ خيار يُمكن قَبُوله أو رفضه، بل أصبحت حقيقةً واقعة، ولا بُدّ من مواجهة الوقائع. فالتحدّي الحقيقيّ يكمن، إذاً، في إدارتها بشكل فاعل لتلبية احتياجاتِنا الراهنة، مَعَ ترك المجال مفتوحاً لأكبر عدد ممكن من الخيارات بالنسبة للأجيال القادمة.

وَيكمنُ جُزء من الإجابة في ابتكار آليّات للتقليل من أثر العَوْلمة على سوق العمل والبيئة في مجتمعاتنا وثقافاتنا المتنوّعة والمتباعدة. مع نّ الحدود عَبْرَ القطريّة أخذت تفقد أهمّيّتها، والمجتمع الأهليّ (المدنيّ) يقف على حافَة التحوْل، فإنّ علينا أنْ نُقِرّ بأنّ لدينا القدرةَ على تحديد شكل تطور البنى التي في الواقع أوجدناها نحن، وعلينا أن نتحمّل مسؤوليّتها. المسألة الأهمّ هي: اذا كانت المعرفة حقَّا رأسَ المال الاقتصاديّ الجديد، فعلينا أنْ نضمنَ لكلّ فرد إمكانيّةَ الوصول إليها؛ بعبارة أخرى، يجب أنْ يصبح التعليمُ أعلى أولويّاتنا. لكنْ، في عالم اليوم فإنّ التعليم يعني أكثر من الحصص الدراسية والمراجع والمدرّسين المؤهَّلين: إنّه يعني إمكانية الوصول الى أحدث التطوّرات في التكنولوجيا الحاسوبيّة. ومن الواضح أنّ هذا المتطلّبَ يحمل معه تحدّياتٍ جديدة، بما في ذلك ضرورةُ تجهيز ثورة المعلومات العالميّة عن طريق نوْعٍ من إدارة المصالح العامة على نطاق عالميّ (Global governance) وبشكل مستدام من النواحي البيئيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

 

       وبصفتي الرّئيسَ الجديد المنتخَب للهيئة الاستشاريّة المتعلّقة بالسياسات التابعة للمنظّمة العالميّة للمِلْكيّة الفكريّة (WIPO)، لا يسعُني ألاّ أنْ أُشيرَ الى أنّ السّوقَ العالميّةَ المعاصرةَ لا تعطي أيّ خيار للبلدان النّامية سوى أنْ تقومَ بتعزيز حقوق المِلْكيّةِ الفكريّة من أجل تقويةِ اقتصاداتها. وفي الوقت نفسه، يتحتّم على البلدان المتقدّمة أنْ تنضمّ بشكل من أشكال التعاون الدّوليّ الشّموليّ للمساعدة في التخفيف من الآثار السلبيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي ستنجمُ بالضرورة عن هذا التّعزيز.


 لقد عملْتُ، طوالَ أكثر من ثلاثين سنة، في الإسهام بإيجاد عالَمٍ يسودُهُ الحوار والتّعاون والسّلام بشكل لا يدع مجالاً للتساؤل أو التعليق. لكنّ العالَمَ الذي أصبو إليه ما زال ضالّتي المنشودة. واليوم أدعوكم إلى الانضمام اليّ في هذا المسعى. لنقمْ سويّةً باستشراف رؤيا عالَمٍ لا تمييزَ فيه، حيث يحقّ لكلّ فرد أنْ يحصلَ على فرصة كي يتطوّرَ دون تحيُّزٍ أو تعصُّبٍ أو ظلم، أيَّا كان نوعه. لنبجِّلِ الحُرّيّاتِ الأربع التي دعا اليها فرانكلين روزفلت: حرّيّة الاعتقاد، والتعبير؛ والتحرّر من الخوْفِ، والحاجة. لنساندْ بأصواتنا تلك الدّعوةَ إلى اقامة ميثاق إنسانيّ مرتبط بأخلاقيّات التعاون الإنسانيّ عَبْر القطريّ؛ ولنعزّزِ الاعتقاد أنّ المحور الأنسب للسياسة والاقتصاد والأمن هو الفرد الإنسانيّ. فمهما كان التعبير عن الجماعيّة - سواء قيل عنها إنّها ثقافة أو حضارة أو مجتمع او دولة - فإنها تتكوّن من أفراد، لكلٍّ منهم احتياجاتُهُ وقُدُراتُهُ وتطلّعاتُهُ الفريدة.